مقالات الرايأخبار العالمامريكةسياسة

حين تنفجر القنابل من غرائز الرئيس.. لا من تقارير الاستخبارات

حين تنفجر القنابل من غرائز الرئيس.. لا من تقارير الاستخبارات

حين تنفجر القنابل من غرائز الرئيس.. لا من تقارير الاستخبارات


بقلم: جرير مروان مراد


في عالم السياسة الدولية، هناك لحظات فارقة تُبنى عليها تحولات كبرى في مسار الشعوب والدول. واحدة من هذه اللحظات حدثت هذا الأسبوع، حين أمر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشنّ ضربة عسكرية واسعة ضد منشآت نووية إيرانية، أسقط خلالها أكثر من اثنتي عشرة قنبلة ثقيلة على أهداف حساسة داخل إيران. لكن القصة، كما يبدو، لم تكن قصة معلومات استخباراتية جديدة أو “كشف مفاجئ” في اللحظة الأخيرة، بل قصة رئيس يتخذ قراراته بناءً على حدسه، لا على تقارير مستشاريه.

الرئيس يتغيّر.. لكن الاستخبارات لا تتغيّر

في معظم فترات حكمه، كانت علاقة دونالد ترامب بالمؤسسات الاستخباراتية الأميركية متوترة. كان يشكك في تقاريرها، ويستخف بتحذيراتها، ويميل إلى اتخاذ قراراته المصيرية وفقًا لتقديراته الذاتية. قرار قصف إيران لم يكن استثناءً. فالرئيس الأميركي السابق لم ينتظر تأكيدات جديدة من وكالات الاستخبارات حول نوايا إيران النووية، بل انطلق من قناعته الشخصية بأنها على وشك امتلاك سلاح نووي، وقرر أن يسبق اللحظة.

ومع أن ترامب صرّح بأن إيران تقترب من امتلاك “القنبلة النووية الحقيقية”، إلا أن تقييمات الاستخبارات الأميركية لم تتغير منذ أكثر من عقدين. حيث تشير جميع التقديرات العلنية إلى أن المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، جمّد البرنامج النووي العسكري منذ عام 2003، العام الذي شهد غزو العراق بذريعة أسلحة دمار شامل ثبت لاحقًا أنها لم تكن موجودة.

التوقيت الانتهازي.. لا المفاجأة الاستخباراتية

في شهادتها أمام الكونغرس في مارس/آذار الماضي، قالت تولسي غابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية والمستشارة المفترضة لترامب، إن إيران لم تستأنف برنامجها النووي العسكري، لكنها أكدت في الوقت نفسه أن طهران راكمت أكبر كمية من اليورانيوم المخصّب في تاريخها. وهذا الأمر – رغم ما يبدو عليه من رمادية – فسّره ترامب وفريقه الأمني على أنه دليل واضح على نية إيران الوصول إلى القنبلة، حتى لو لم تبدأ بتجميعها فعليًا.

جون راتكليف، مدير CIA آنذاك، استخدم تشبيهًا رياضيًا في إحاطة سريّة مع المشرعين الأميركيين ليصف نوايا إيران: “من يقطع 99 ياردة في ملعب كرة القدم لا ينوِي التوقف عند خط النهاية”. لم تكن الجملة عشوائية، بل كانت بمثابة شرارة خطاب تبريري، تم استخدامها لاحقًا لتصوير إيران على أنها على بعد خطوات معدودة من امتلاك السلاح النووي.

إسرائيل تمهّد.. وترامب يقصف

لعبت إسرائيل دورًا غير مباشر – وربما أكثر تأثيرًا – في هذه السلسلة المتسارعة من الأحداث. قبل أسبوع واحد من الضربة الأميركية، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف مواقع إيرانية وتستهدف علماء نوويين بارزين. لم يُعلن عن تنسيق رسمي بين الطرفين، لكن التوقيت المتزامن لا يمكن أن يكون محض صدفة.

أحد أبرز العلماء الإيرانيين، فريدون عباسي دواني، خرج في مقابلة لوسائل إعلام محلية مُحذرًا من أن إيران قادرة على استخدام السلاح النووي بطريقة مختلفة، دون الحاجة لنقله عبر صواريخ أو طائرات. كان يتحدث عن إمكانية تسليم القنبلة لوكلاء إيران في الخارج، الأمر الذي فهمته تل أبيب وواشنطن على أنه تهديد ضمني. بعد أيام قليلة، استهدفته غارة إسرائيلية وأردته قتيلًا.

تجاهل واضح للمعطيات.. وتبريرات جاهزة

لم تكن تصريحات ترامب مبنية على تحليل استخباراتي دقيق، بقدر ما كانت تستند إلى رؤيته الخاصة. قال بوضوح في أحد مؤتمراته الصحفية: “إذا كانت أجهزتي الاستخباراتية تقول إن إيران لا تطوّر سلاحًا نوويًا، إذن فهي مخطئة”. لم يتردد في تكذيب مستشارته غابارد، رغم أنها تحدثت أمام الكونغرس، ولم يُخضع نفسه لمبدأ الشك والتدقيق.

في موازاة ذلك، لم يُقدَّم للرأي العام أي دليل حاسم على تغيّر جذري في البرنامج الإيراني، بل كانت الأدلة كلها ضمن النطاق الرمادي ذاته الذي تتعامل معه الوكالات الأميركية منذ سنوات. ولكن يبدو أن التوقيت، أكثر من أي شيء آخر، هو ما دفع الرئيس السابق للتصرف.

الديمقراطيون يشكّكون.. وترامب ماضٍ في قراره

من جهة أخرى، يعبّر الديمقراطيون، وعلى رأسهم السيناتور كريس مورفي، عن قلقهم من أن يكون قرار الضربة قد اتخذ في غياب مبرر استخباراتي واضح. يقول مورفي إنه اطلع على المعلومات الاستخباراتية قبل الضربة، ولم يجد فيها ما يشير إلى “تهديد وشيك” من جانب إيران، بل أشار إلى أن المفاوضات مع طهران كانت لا تزال قائمة.

هذا التصريح يضع علامات استفهام كبرى على “الرواية الرسمية” التي قُدمت لتبرير الضربة. فهل كانت الضربة ضرورية؟ أم أنها كانت استعراض قوة في لحظة سياسية حساسة، يخوض فيها ترامب معاركه الداخلية والخارجية بتكتيك الصدمة؟

النهاية مفتوحة.. والقرار أصبح خلفنا

وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغزيث، اكتفى بالقول إن “الرئيس اطلع على المعلومات كافة، وتوصل إلى استنتاجه الخاص”. لم يُقدَّم شيء جديد، ولم تُعرض معلومات حساسة تقلب الموازين. كل ما في الأمر أن ترامب قرر – لأسباب سياسية أو غرائزية – أن يُنهي صبره، ويطلق قنابله.

وفي النهاية، ما حدث لا يُمكن عزله عن السياق الأكبر لإدارة ترامب: رئيس لا يُصغي كثيرًا، ويُفضّل اتخاذ القرار بنفسه. رئيس يتصرف أحيانًا كأنه يدير صفقة تجارية، لا دولة كبرى. رئيس أدمن فكرة القوة، حتى حين يكون الوقت غير مناسب.

إيران.. إلى أين؟

ما بعد الضربة ليس كما قبلها. إيران، التي امتصت ضربات عديدة في السنوات الماضية، لن تقف مكتوفة الأيدي طويلًا. ربما لن تردّ عسكريًا الآن، لكن ما يُخشى منه هو تغيّر قواعد الاشتباك النووي نفسها. فبعد هذا القصف، قد تتخلى طهران عن سياسة “الغموض النووي”، وتسير علنًا باتجاه تصنيع القنبلة كخيار للردع.

وفي حال حصل هذا، سيكون ترامب قد فتح أبواب الجحيم في المنطقة، لا لأنه أراد الحرب، بل لأنه لم يحترم عقل الاستخبارات، واختار أن يُحكم العالم بناء على إحساسه لا على الوقائع.


خاتمة

الضربة الأميركية على إيران قد لا تُشعل حربًا، لكنها بلا شك أشعلت تساؤلات حول الطريقة التي يُدار بها العالم حين يقرر القادة الكبار أن يتصرفوا دون مرجعية مؤسساتية. فهل نعيش حقًا في عالم تحكمه القوانين والمعلومات الدقيقة؟ أم أن كل شيء قد ينفجر بلحظة من لحظات المزاج الرئاسي؟ في هذه القضية، ترامب تغيّر.. لكن أجهزة الاستخبارات لم تتغيّر. الفرق أن القرار بيده، لا بيدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى