مقالات الرايأخبار سورياالاخبارالسياسة السوريةسياسة
أخر الأخبار

تقرير استراتيجي وتحذيري شامل: مشروع "أمة" التركي – من البدايات التاريخية حتى التهديد الراهن

تقرير استراتيجي وتحذيري شامل: مشروع "أمة" التركي – من البدايات التاريخية حتى التهديد الراهن

 

 

📍 **المقدمة التاريخية – خلفية الأزمة وأبعاد المشروع**

على مدار العقود الماضية، شهدت المنطقة تحولات سياسية وجيوستراتيجية عميقة، كان لها تأثيرات مباشرة على مستقبل سوريا والمنطقة برمتها. في هذا السياق، برزت تركيا كلاعب إقليمي فاعل يسعى لإعادة بناء نفوذها وتأثيرها عبر أدوات سياسية، اقتصادية، وثقافية متعددة، منها ما هو ظاهر ومنها ما يعمل في الخفاء. منذ بداية الألفية الجديدة، شهد الخطاب التركي تحوّلًا تدريجيًا من دبلوماسية “صفر مشاكل مع الجيران” إلى سياسة توسعية تتماهى مع أطروحات وأحلام الإمبراطورية العثمانية التي تحاول تركيا إحياؤها بلبوس حديث.

مع اندلاع الحرب السورية في عام 2011، وتفكك الدولة المركزية، وفراغ السلطة في مناطق واسعة من شمال وشرق سوريا، استغلت أنقرة هذا الواقع لتوسيع نفوذها عبر سياسات متنوعة، شملت التدخل العسكري، دعم فصائل معينة، وأيضًا إطلاق مبادرات ومشاريع مدنية تحمل غطاءً إنسانيًا وتعليميًا، لكنها في حقيقتها أدوات ناعمة تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السوري وفق مصالح تركية استراتيجية.

من بين هذه المبادرات، ظهر مشروع “أمة” كأحد أهم الأدوات التي تعتمدها تركيا في شمال سوريا، مشروع لم يكن مجرد برنامج تعليمي أو إغاثي عابر، بل استثمار ذكي في العقول والقلوب، يهدف إلى برمجة جيل كامل على ولاء عقائدي وقومي جديد ينبع من رؤية عثمانية معاصرة. مشروع “أمة” ليس حادثًا منفصلًا، بل هو امتداد طبيعي لسلسلة طويلة من المحاولات التركية لإعادة صياغة الهوية في المنطقة بما يخدم أهدافها التوسعية.

يرتكز هذا التقرير على تحليل شامل ودقيق لمشروع “أمة” في أبعاده الفكرية والسياسية والاجتماعية، مستعرضًا السياق التاريخي الذي ساهم في تشكل هذه الرؤية، وكيف تواكب تركيا اليوم استراتيجيتها مع أدوات ناعمة تُشبه ما مارسته إيران في العراق وسوريا من خلال مشاريعها الطائفية والعقائدية، لكن بأسلوب مختلف وأكثر تعقيدًا وذكاءً. إن فهم هذه الخلفية التاريخية والسياسية ضروري لتقدير حجم التهديد الذي يشكله هذا المشروع على مستقبل سوريا وهويتها الوطنية.

في هذا التقرير، سنسلط الضوء بداية على التحولات السياسية في الخطاب التركي منذ بداية الألفية، مرورًا بالتغيرات التي شهدها الوضع في شمال سوريا نتيجة الحرب المستمرة، وكيف استطاعت تركيا أن توظف الفراغ الأمني والثقافي لصالحها. سنكشف عن الأساليب التي يعتمدها مشروع “أمة” في جذب الشباب والمراهقين، واستخدام المساعدات والأنشطة التعليمية لتثبيت الولاءات الجديدة التي تتجاوز الدولة الوطنية السورية.

كما سنقوم بتوضيح كيف يرتبط مشروع “أمة” بالأحلام العثمانية القديمة التي لطالما حملتها الدولة التركية الحديثة في صلب سياستها، وكيف أن هذه النزعة توسعية لا تختلف جوهريًا عن التمدد الإيراني الطائفي، بل تشكل تهديدًا فكريًا وعقائديًا أعمق قد يترك تأثيرات سلبية على الأجيال القادمة.

وأخيرًا، لن تقتصر الدراسة على التشخيص والتحليل فقط، بل سنتناول توصيات عملية تستهدف الأهالي والمجتمع المحلي في محافظة الحسكة، لتبني نهج يقظ في مواجهة هذا الخطر، عبر مراقبة الأنشطة التعليمية والتربوية، وتعزيز بدائل وطنية تحافظ على السيادة الفكرية والثقافية.

هذا التقرير ليس مجرد وثيقة تحليلية، بل هو دعوة ملحة للاستيقاظ، للحفاظ على هوية وطنية لا تقبل التجزئة أو التلاعب، في وقت تتسارع فيه عمليات “الهيمنة الناعمة” التي تحاول إلغاء كل ما هو سوري أصيل لصالح مشاريع خارجية تتخذ من الدين والثقافة غطاءً لتحقيق مصالح جيوسياسية.

إن مشروع “أمة” التركي ليس مجرد مبادرة تعليمية، بل هو مشروع سياسي وإيديولوجي يخطط لنسف مفهوم الدولة الوطنية من الداخل، وإعادة صياغة ولاءات الشباب والمجتمع بما يخدم مشروعًا إمبراطوريًا متجدداً، وهذا ما يجعل مواجهته مسؤولية وطنية وأمنية وثقافية على كل السوريين، ولا سيما في الحسكة التي تمثل واحدة من أبرز مناطق التماس بين النفوذ التركي والإيراني.

في ضوء هذه الحقيقة، يأتي هذا التقرير ليكشف النقاب عن كل الأبعاد المجهولة لهذا المشروع، ويضع بين يدي القارئ صورة واضحة ومتكاملة عن المخاطر التي يحملها، والسبل الممكنة للوقاية والتصدي، حتى لا تتحول هذه المناطق إلى قواعد لانفجار أزمات جديدة تهدد وحدة سوريا واستقرارها على المدى البعيد.

هذا المشروع الذي تسلل خلسةً، لم يُعلن عن أهدافه الصريحة منذ البداية، بل ارتدى عباءة الدين والنهضة والهوية الجامعة، مقدمًا نفسه على أنه مبادرة إنسانية تهدف إلى النهوض بالمجتمعات المنكوبة، ودعم الأطفال والأيتام، ونشر القيم الإسلامية الجامعة. لكنه في جوهره العميق، ليس سوى أداة خفية تستهدف سلخ الأجيال السورية الناشئة عن بيئتها الأصيلة، وتجريدها من هويتها الوطنية، وثقافتها العربية، وربطها تدريجيًا بمرجعية عقائدية وسياسية مستوردة تُنسب إلى مشروع عثماني جديد تقوده القيادة التركية الحالية، وتحديدًا التيار الحاكم في أنقرة ممثلًا بحزب العدالة والتنمية.

إن هذا المشروع، الذي جاء في البداية بصيغة ناعمة ومطمئنة، سرعان ما كشف عن أطماعه وأجندته المستترة. فقد استثمر في حاجة الناس، وفي الفراغ التربوي والتعليمي الذي خلفته الحرب السورية، واستغل الأوضاع الإنسانية والمعيشية المتردية، ليزرع مفاهيم غريبة عن الوجدان الجمعي السوري. وتمكن في بعض المناطق من تقديم نفسه كبديل عن الدولة، مستغلًا انعدام الحضور الرسمي وغياب المؤسسات الوطنية، ليفرض رؤيته التربوية والعقائدية والإيديولوجية تحت لافتات العمل الخيري والدعم الإغاثي.

🔍 الفصل الأول: البدايات الخفية – كيف بدأ مشروع “أمة”؟

في عام 2016، بالتزامن مع التدخل العسكري التركي المباشر في الأراضي السورية، ودخول الجيش التركي إلى مناطق الشمال السوري ضمن ما سُمي بعملية “درع الفرات”، بدأت تظهر تدريجيًا مراكز تعليمية، جمعيات شبابية، ومبادرات تربوية ذات طابع مدني، لكن بتمويل وإشراف تركي مباشر أو غير مباشر. هذه المبادرات، التي أخذت طابعًا خدماتيًا في ظاهرها، كانت في جوهرها منصات لإعادة صياغة العقل الجمعي للفئات المستهدفة، خصوصًا الأطفال والمراهقين.

فقد تم افتتاح مدارس ومعاهد تعليمية داخل المخيمات وخارجها، بعضها عمل تحت مظلة الهلال الأحمر التركي، وبعضها الآخر أُطلق من قبل جمعيات إنسانية تبدو مستقلة ظاهريًا، لكنها ترتبط عضويًا بمؤسسات قريبة من حزب العدالة والتنمية، أو منظمات تنشط في ما يُعرف بـ”تيار الإسلام السياسي العثماني”.

في البداية، لم تكن الأمور واضحة للعيان. بدت المراكز وكأنها تقوم بعمل نبيل، تعليم اللغة، وتقديم مساعدات غذائية، وتنظيم دورات تعليمية وفنية. لكن شيئًا فشيئًا، بدأت تظهر علامات استفهام جدية:

لماذا يُطلب من الأطفال السوريين تعلم اللغة التركية قبل لغتهم الأم، العربية؟

لماذا تُعلّق صور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الصفوف الدراسية، فوق رؤوس الطلاب اليتامى؟

لماذا يتم تقديم تاريخ الدولة العثمانية بوصفها النموذج الإسلامي المثالي، دون أي ذكر لسيئاتها أو انتقاداتها؟

لماذا تروج الأنشطة التربوية لمصطلحات مثل “الفتح” و”الخلافة” و”السلطان”؟

كانت هذه التساؤلات بمثابة إشارات تحذيرية على أن ما يجري ليس مجرد عمل خيري عابر، بل مشروع طويل الأمد، يراد من خلاله إعادة تشكيل الهوية والذاكرة والولاء والانتماء.

📜 الفصل الثاني: المشروع بوصفه أداة ناعمة للتوسع العثماني

ما يُميّز مشروع “أمة” هو طابعه الناعم، الذي لا يستخدم العنف أو القوة المباشرة، بل يعتمد على أدوات أكثر خطورة على المدى البعيد: التعليم، الثقافة، العاطفة الدينية، والمساعدات الاجتماعية.

إن أخطر ما في هذا المشروع ليس ما يقدمه من خدمات، بل ما يخفيه من أهداف بعيدة المدى.

يقوم المشروع على ثلاث ركائز أساسية:

تغيير المرجعية التربوية والفكرية:
حيث يتم استبدال المناهج الوطنية السورية بمحتوى مستورد يُعظّم تاريخ الدولة العثمانية، ويُقدّمها بوصفها النموذج الإسلامي الأمثل. هذا المحتوى يغيب فيه ذكر الانتماء لسوريا كوطن، أو للقضية العربية، لصالح مفاهيم مثل “الأمة الإسلامية الكبرى” و”الخلافة الواحدة”.

استغلال العاطفة الدينية والشعارات الإسلامية:
يُقدَّم المشروع في إطار ديني جامع، تُستخدم فيه مفاهيم مثل “الوحدة الإسلامية”، “تحرير المقدسات”، “نصرة الأمة”، و”إعادة أمجاد السلف”، لجذب الشباب والمراهقين الذين يعانون من الفراغ الفكري والروحي نتيجة الفوضى والحرب.

ربط الولاء بالمساعدات:
يتم تحويل العطاء الإنساني إلى أداة لفرض الولاء، حيث يُشترط أحيانًا على الأسر المحتاجة إرسال أبنائها إلى مراكز التعليم التابعة للمشروع، أو المشاركة في دورات فكرية معيّنة، مقابل الاستمرار في تلقي الدعم الغذائي أو المالي أو الصحي.

هذا النمط من العمل، الذي يستهدف التكوين النفسي والذهني للأطفال واليافعين، ليس جديدًا على الساحة الإقليمية، فإيران نفسها مارسته من قبل في العراق وسوريا ولبنان، عندما مزجت بين التبشير الديني والخدمات الاجتماعية، لخلق تبعية عقائدية مطلقة. الفرق أن المشروع التركي اليوم لا يستخدم لغة مذهبية واضحة، بل يستعير مفاهيم الإسلام السني التقليدي، ويُلبسها ثوب العثمانية، لتصبح عقيدة عابرة للحدود تخدم مشروع الدولة التركية الحديثة.

في هذا السياق، يصبح مشروع “أمة” أخطر من أي اجتياح عسكري، لأنه لا يقتصر على الأرض، بل يمتد ليغزو العقول، ويعيد تشكيل الأذهان، ويزرع ولاءً طويل الأمد لرمزية السلطان، بديلًا عن الانتماء لسوريا كوطن ودولة وهوية. وهنا يكمن جوهر الخطر الذي ينبغي التحذير منه مبكرًا، قبل أن تتكرس هذه البذور في أجيال قادمة يصعب استردادها.

📚 الفصل الثالث: الخيانة الممتدة – من العثمانيين إلى إيران

لفهم أبعاد مشروع “أمة” التركي، لا بد من النظر في السياقات التاريخية التي مهدت لمثل هذه المشاريع العابرة للحدود. فعبر التاريخ الحديث، لم تكن محاولات الهيمنة على العالم العربي نابعة من فراغ، بل جاءت كنتيجة مباشرة لتراكمات من الخيانات السياسية والتاريخية، بدأت مع العثمانيين واستمرت مع الفرس/الإيرانيين، لتصل اليوم إلى أشكال جديدة من السيطرة الناعمة المغلفة بالدين والمذهب والعمل الخيري.

🔸 أولاً: الدولة العثمانية – الوجه الإمبراطوري القديم للاستعمار الإسلامي

لم تكن الدولة العثمانية مجرد خلافة كما يُروّج لها في المناهج الجديدة التي يدفع بها مشروع “أمة”، بل كانت إمبراطورية توسعية مارست سياسات قمعية ضد الشعوب العربية، وسعت بكل الوسائل إلى تذويب الهويات الوطنية، وخاصة في بلاد الشام والجزيرة العربية.

قمع الثورة العربية الكبرى: في العقد الثاني من القرن العشرين، ومع تصاعد وعي العرب بضرورة الاستقلال عن الاحتلال العثماني، اندلعت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين. وبدلًا من قراءة هذه الثورة كحق طبيعي لشعوب مقهورة، تعامل العثمانيون معها كخيانة، وقاموا بقمعها بقسوة شديدة، في حين اعتبرها الأتراك الحاليون، في أدبياتهم السياسية، مثالًا على “الخيانة الكبرى”، وهو ما يُدرّس اليوم في بعض مناهج مشروع “أمة” بشكل ضمني أو صريح.

بيع فلسطين والتفاوض مع الصهاينة: رغم ما يُشاع عن دفاع العثمانيين عن فلسطين، فإن الوقائع التاريخية تشير إلى محادثات موثقة بين قادة عثمانيين ورموز من الحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين. ففي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، جرت لقاءات مع تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، حيث عُرضت مبالغ طائلة مقابل تسهيل الاستيطان اليهودي في فلسطين. ورغم رفض عبد الحميد الظاهري، فإن السياسات العثمانية لاحقًا سمحت بتدفق المهاجرين اليهود، ما مهّد لنكبة 1948.

سياسات التتريك والإعدامات: فرضت الدولة العثمانية اللغة التركية على العرب، وسعت لتذويبهم ضمن الهوية التركية الإمبراطورية، معتبرة كل مظهر من مظاهر الاستقلال الثقافي والسياسي جريمة. وشهدت مدن مثل بيروت ودمشق حملات إعدامات جماعية بحق مثقفين ووطنيين عرب، كان ذنبهم الوحيد المطالبة باستقلال بلادهم عن التاج العثماني.

هذه الممارسات لا تُذكر في خطاب مشروع “أمة”، بل يتم تعظيم السلطنة العثمانية باعتبارها “مجدًا إسلاميًا” دون التطرق لما ارتكبته من جرائم بحق العرب، ما يجعل المشروع برمّته قائمًا على مغالطة تاريخية وتزييف ممنهج.

🔸 ثانيًا: المشروع الفارسي – التغلغل الطائفي من الصفويين إلى ولاية الفقيه

على الجانب الآخر، لا يمكن تجاهل أن المشروع الإيراني مثّل نموذجًا آخر للهيمنة على العالم العربي، لكن هذه المرة عبر البوابة الطائفية.

تشّييع بلاد فارس بالقوة: مع صعود الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، تم فرض التشيّع كمذهب رسمي في إيران عبر العنف والاضطهاد، وتحولت إيران من دولة سنية إلى دولة شيعية بالقوة. كان ذلك مقدمة لبناء هوية مذهبية سياسية استُخدمت لاحقًا لتوسيع النفوذ الإيراني في المشرق العربي.

التحالف مع الغرب ضد العثمانيين: لم يكن التحالف الإيراني مع الأوروبيين ضد الدولة العثمانية خلال القرون السابقة صدفة، بل كان استراتيجية مدروسة. فقد قدم الصفويون أنفسهم كحليف محتمل للغرب في مواجهة النفوذ العثماني السني، وهو ما تكرر لاحقًا في العصر الحديث مع الجمهورية الإسلامية التي نسجت تفاهمات مع القوى الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، في ملفات حساسة مثل العراق وأفغانستان.

نشر الميليشيات الموالية في العواصم العربية: منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بدأت مرحلة جديدة من تصدير الأيديولوجيا الشيعية الثورية. أنشأت طهران ميليشيات مسلحة في العراق، سوريا، لبنان، اليمن، وحتى البحرين، تحت شعارات طائفية ودينية، لكن بهدف واضح هو بسط الهيمنة على القرار السياسي في هذه الدول.

الميليشيات التابعة لإيران لا تعمل ضمن المؤسسات الوطنية، بل تأخذ أوامرها من الحرس الثوري، وتدفع باتجاه خلق دول داخل الدول، تُدار بولاء مذهبي لا انتماء وطني. وهو ما جعل هذه الميليشيات عامل هدم للاستقرار، وأداة لتكريس الطائفية السياسية.

🔸 ثالثًا: “أمة” و”الولي الفقيه” – وجهان لعملة واحدة

قد يعتقد البعض أن مشروع “أمة” التركي، بلبوسه السني، يقف على النقيض من مشروع “الولي الفقيه” الشيعي. لكن الحقيقة أن كليهما يستندان إلى رؤية فوق وطنية تتجاوز الدولة الوطنية ومفهوم السيادة.

تشابه في الأدوات: كما تستخدم إيران الحسينيات والدروس العقائدية والمنح الدينية لاستقطاب الشباب، تعتمد تركيا عبر مشروع “أمة” على المراكز التعليمية والمساعدات والمخيمات والأنشطة الدعوية. الهدف في الحالتين هو صناعة ولاء يتجاوز الدولة نحو مرجعية سياسية-دينية خارج الحدود.

توظيف الدين لأغراض سياسية: يستخدم كلا المشروعين الإسلام كأداة لتحقيق الهيمنة السياسية. فبينما ترفع إيران شعار “نصرة المستضعفين” لتبرير تدخلها في شؤون الدول الأخرى، تروج تركيا لمفهوم “الوحدة الإسلامية” و”الخلافة العثمانية” لإعادة تشكيل الوعي العربي ضمن قالب يخدم طموحاتها القومية.

إضعاف الهوية الوطنية: أخطر ما يجمع المشروعين هو ضرب مفهوم الدولة الوطنية. حيث يُعاد تشكيل وعي الأفراد – خصوصًا الأطفال والشباب – ليتحولوا من مواطنين في دول مستقلة، إلى أدوات ضمن مشاريع كبرى لا تعترف بالحدود الوطنية، بل تعتبرها عوائق أمام “النهضة الإسلامية”.

🔸 الخلاصة: المشروعان يلتقيان في تدمير السيادة وتمزيق الهوية

سواء كان الوجه العثماني الناعم لمشروع “أمة”، أو الوجه الخشن الطائفي لمشروع إيران، فإن الخطر واحد: تفكيك المجتمعات العربية، وسلب قرارها الوطني، وتحويلها إلى توابع تدين بالولاء لعواصم خارجية. إنها مشاريع لا تختلف في جوهرها عن الاستعمار القديم، لكنها تتخفى هذه المرة برداء الدين والمساعدات.

ومن هنا، فإن مواجهة مشروع “أمة” لا تقتصر على رفض الوجود التركي فحسب، بل تتطلب وعيًا جماعيًا بالروابط العميقة بينه وبين غيره من المشاريع فوق الوطنية التي تستهدف المنطقة. كما تتطلب تعزيز الهوية الوطنية العربية، وإعادة الاعتبار للسيادة، وبناء نظم تعليمية وثقافية تعزز الانتماء، وتُحصّن الأجيال من أي محاولة للاختراق العقائدي أو السياسي.

إن التاريخ لا يُنسى، ومن لا يقرأه جيدًا، يُعاد تدويره عليه بشكل أكثر نعومة. والعثمانيون والفرس، وإن اختلفت مذاهبهم وخطاباتهم، إلا أنهم اتفقوا على شيء واحد: أن يكون العرب تابعين، لا شركاء.

ولهذا، لا بد من وقفة صريحة تقول: لا للخلافة، لا للوصاية، نعم لدولة عربية حرة مستقلة.

🧠 الفصل الرابع: كيف يستهدف مشروع “أمة” عقول المراهقين؟

في عالم تتنافس فيه القوى الناعمة على إعادة تشكيل وعي الشعوب، ظهر مشروع “أمة” التركي كأحد أخطر النماذج التي تستهدف العقل العربي، لا من بوابة السياسة ولا عبر الاقتصاد، بل من بوابة التربية والطفولة والمراهقة. هذه الفئة العمرية الحساسة التي تشكّل حجر الأساس لأي مجتمع، باتت اليوم هدفًا مباشرًا لمشروع عقائدي ناعم، يُخفي خلف ابتسامته أجندة إمبراطورية توسعية تعيدنا إلى أحلام السلطنة العثمانية بثوب جديد.

🔸 الاستهداف يبدأ من النقطة الأضعف: الحاجة
يعرف صناع مشروع “أمة” أن العوز والحاجة هما الثغرتان الأكبر لاختراق أي مجتمع، وخاصة في البيئات الهشة التي أنهكتها الحروب والنزوح والفقر. لذلك، يبدأ المشروع بالظهور على هيئة مبادرات إنسانية:

توزيع حقائب مدرسية للأطفال.

توفير منح دراسية للأيتام.

افتتاح مراكز تعليمية بمواصفات جيدة.

تقديم دورات مجانية في الحاسوب واللغات.

لكن ما يُقدّم في الظاهر يختلف كليًا عما يُبث في الجوهر. فالمناهج التي تُدرَّس في تلك المراكز لا تركز على اللغة العربية ولا على التاريخ المحلي، بل تعطي مساحة واسعة للغة التركية، وتقدّم دروسًا مبطّنة في التاريخ العثماني بوصفه ذروة المجد الإسلامي، وتتجاهل المراحل المشرقة في الحضارة العربية الإسلامية.

🔸 مراحل غسل الوعي:
مشروع “أمة” لا يعمل بشكل عشوائي، بل يتبع خطة مدروسة تبدأ تدريجيًا وتُبنى طبقة فوق طبقة، كعملية ترويض ناعمة للوعي الجمعي.

المرحلة الأولى: الإغراء والمساعدات
يبدأ الاستقطاب من خلال تقديم الحوافز: وجبات يومية، ملابس شتوية، أنشطة رياضية، وأجهزة لوحية. في هذه المرحلة لا يُطلب من الطفل أي التزام عقائدي أو فكري، فقط أن يكون موجودًا.

المرحلة الثانية: صناعة الانتماء
تبدأ الرموز بالظهور تدريجيًا: علم تركيا بجوار علم التنظيم، صور لأردوغان، عبارات عن “الأمة الإسلامية الواحدة”، أناشيد باللغة التركية. يصبح الطفل جزءًا من منظومة رمزية جديدة تشكل وجدانه.

المرحلة الثالثة: إعادة التكوين العقائدي
هنا تبدأ المفاهيم الكبرى بالتسرب:

فكرة الخلافة كحل سياسي للأمة.

استدعاء الأمجاد العثمانية كبديل عن الهويات الوطنية.

تقزيم دور الحكومات الوطنية بوصفها عاجزة أو تابعة.

إضفاء صبغة دينية على كل ما هو تركي، وكأن تركيا هي الحارسة الحصرية للإسلام.

🔸 النتائج المتوقعة:
ما يُزرع في الطفولة يُحصد في الشباب. فهؤلاء الأطفال الذين تعرّضوا لسنوات من إعادة التكوين الذهني، سينشؤون على اعتقاد راسخ أن تركيا هي القائد الطبيعي للمسلمين، وأن دولتهم الأصلية فاشلة أو غير شرعية، وأن اللغة التركية هي لغة الارتقاء، بينما العربية ليست سوى لغة الخطب والضعف.

وهكذا، تتكوّن طبقة شبابية ترى في مشروع “أمة” طريقًا للخلاص، وتُعاد برمجة أولوياتها لتكون في خدمة مشروع خارجي. بل الأسوأ، أن بعضهم قد يكون مستعدًا مستقبلاً لحمل السلاح دفاعًا عن هذا المشروع، أو التورط في أنشطة أمنية تخدم أجندته.

🔸 دور التقنية والمنصات الرقمية:
لم يكتفِ مشروع “أمة” بالعمل الميداني، بل امتد إلى الفضاء الرقمي. فمن خلال تطبيقات تعليمية، ومنصات بث مرئي، وألعاب إلكترونية مصممة بعناية، يتم تمرير الرسائل التربوية ذات الطابع العثماني – الإسلامي، بشكل ممتع وسلس.

يتم تصوير شخصية السلطان العثماني كبطل خارق.

يتم تقديم الأعداء دائمًا بلباس عربي أو بلهجة شامية.

تُروّج مفاهيم الطاعة للقائد العثماني بوصفها طاعة لله.

هذا الاستخدام المكثّف للتكنولوجيا يوسّع دائرة التأثير ويجعل الطفل السوري المعزول في قرية نائية جزءًا من منظومة دعائية ضخمة لا يستطيع مقاومة رسائلها.

🔸 استهداف الأسرة من بوابة الطفل:
ما إن يبدأ الطفل بالانخراط في هذه الأنشطة، حتى يتحول إلى سفير غير مباشر للمشروع داخل بيته. يبدأ بنقل الأفكار إلى إخوته، يطالب أهله بمتابعة القنوات المرتبطة بالمشروع، يعترض على رموز وطنية بحجج عقائدية، ويشكك في كل ما يخالف ما تعلمه في المراكز التركية.

وهنا، نلاحظ نموذجًا جديدًا من التفكيك الأسري، حيث يُصبح الانتماء العقائدي للأطفال في مكان، وانتماء الأهل في مكان آخر. وهو تفكيك ناعم، لكن نتائجه مدمّرة.

🔸 تقاطع مع مشاريع أيديولوجية أخرى:
إن ما يفعله مشروع “أمة” لا يختلف جوهريًا عمّا قامت به إيران من خلال الحسينيات والمراكز الثقافية. فكما استهدفت إيران الطبقات الشعبية بمفاهيم “نصرة الحسين” و”الولي الفقيه”، ها هي تركيا اليوم تستهدف الطبقات ذاتها بمفاهيم “الخلافة” و”الأمة الواحدة” و”القائد المسلم”.

كلا المشروعين يستخدم العقيدة بوصفها أداة، ويحوّل الدين إلى بوابة للهيمنة الجيوسياسية. الفرق فقط أن إيران تستخدم التشيّع، وتركيا تستخدم السُنيّة المؤدلجة.

🔸 ما الحل؟ كيف نحصّن أبناءنا؟

بناء منظومة تربوية وطنية بديلة:
لا بد من إطلاق مشاريع تعليمية محلية تلبّي الحاجات المعيشية والثقافية للأطفال، وتمنحهم شعورًا بالكرامة والانتماء.

تحفيز الخطاب الوطني الجامع:
عبر الإعلام والمدارس والمساجد، يجب تعزيز مفاهيم الانتماء لسوريا كوطن، لا كمساحة فارغة تنتظر احتلالًا معنويًا من أي طرف.

رصد المنصات الرقمية المشبوهة:
وتقديم بدائل رقمية بجودة عالية، تحترم الدين دون تسييسه، وتُعرّف الأطفال بتاريخهم الحقيقي، لا الروايات المنتقاة بعناية لأغراض أيديولوجية.

إشراك الأهالي في التربية الفكرية:
عبر ورش توعية، ومنصات تثقيفية، يمكن إعادة تمكين الأسرة لتكون الحصن الأول ضد الاختراق العقائدي.

🧩 الخلاصة:
مشروع “أمة” ليس مشروع مساعدات، ولا هو مجرد مبادرة تعليمية. إنه أداة لإعادة تشكيل العقول من الداخل، عبر استهداف الطفل قبل الشاب، والأسرة قبل المجتمع. وإن لم يتم التعامل مع هذا المشروع بحزم ووعي، فإننا خلال عقد أو اثنين، سنواجه جيلاً كاملاً لا يرى نفسه سوريًا، بل يرى هويته في دولة خارجية تَقدّم له كل شيء إلا الحقيقة.

📌 الفصل الخامس: التوصيات لأهالي الحسكة وعموم الجزيرة السورية

في ظل ما يواجهه أبناء الجزيرة السورية من مشاريع ناعمة تهدف لاختراق الهوية الوطنية، وعلى رأسها مشروع “أمة” التركي، تقع علينا مسؤولية جماعية وتاريخية لحماية الأجيال القادمة من الغزو الثقافي المقنّع الذي يتسلل إلينا من خلال التعليم، والمساعدات، والأنشطة المجتمعية. إن مستقبل أبنائنا ليس ساحة للمساومة، ولا يمكن التفريط به تحت أي ذريعة، فالثورة السورية لم تكن يوماً من أجل استبدال طاغية داخلي بهيمنة خارجية، بل كانت صرخة من أجل التحرر التام، سياسياً وأخلاقياً وفكرياً.

📍 أولاً: المراقبة المجتمعية – المجتمع كدرع حماية
إن أي نشاط يُقام باسم الإغاثة أو التعليم أو الدين يجب ألا يُترك دون تمحيص. فلا يكفي أن نرى أطفالنا يتلقون دروساً أو مساعدات دون أن نعرف من يقف خلفها، وما الأجندة التي تُمرر من خلالها. لا بد من سؤال مباشر: من يُموّل هذا النشاط؟ ما هي مرجعيته الفكرية؟ ما هو المنهاج المستخدم؟ من هم المعلمون؟

هذا النوع من الأسئلة ليس تشكيكاً في النوايا، بل واجب شرعي وأخلاقي لحماية مجتمعاتنا. وقد قال النبي ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”، وهذا الحديث يجب أن يكون قاعدة عملنا الجماعي في هذه المرحلة الحساسة.

📍 ثانيًا: تعزيز البدائل المحلية – استعادة زمام المبادرة
أمام هذا السيل الجارف من المشاريع الموجهة، لا بد من بناء مبادرات محلية نابعة من وجدان المجتمع نفسه. يمكن البدء بحلقات تعليمية في المساجد، أو مراكز تربوية في الحي، أو مبادرات توعوية يقودها المعلمون وأهل العلم. المهم أن يكون العمل من الناس وإليهم، لا مستورداً ومفروضاً.

ليس المطلوب أن نبني مؤسسات ضخمة، بل أن نؤسس لوعي مستقل، متجذر في بيئتنا، يحترم قيمنا ويُعبّر عن هويتنا العربية السورية.

📍 ثالثًا: تشكيل لجان رقابية بين الأهالي والمجالس المحلية
لا بد من تشكيل لجان شعبية تطوعية، بالتنسيق مع المجالس المحلية، تراقب أي نشاط تربوي، ديني، أو ثقافي يُقام في الأحياء والقرى. هذه اللجان يجب أن تكون من النخب المجتمعية، من المعلمين، الأطباء، وجهاء القبائل، والشخصيات المشهود لها.

من خلال هذه اللجان، يمكن جمع التقارير، ومتابعة الأنشطة، ومحاسبة أي جهة تتجاوز الحدود، سواء بنشر أفكار مشبوهة أو بمحاولة خلق تبعية ثقافية لدولة أجنبية.

📍 رابعًا: رفع مستوى الوعي المجتمعي – السلاح الحقيقي هو المعرفة
أخطر ما تقوم به المشاريع الناعمة مثل مشروع “أمة”، هو قدرتها على التغلغل دون أن تُواجه بالرفض الشعبي. ولذلك، فإن رفع الوعي يجب أن يكون أولوية.

يجب على الآباء والأمهات أن يتحدثوا مع أبنائهم، أن يشرحوا لهم أن ليس كل من يقدم لهم منحة أو نشاطًا هو بالضرورة مخلص. يجب تعليمهم الفرق بين العمل الخيري الحقيقي، والعمل المشروط الذي يحمل أجندة سياسية موجهة.

وقد قال النبي ﷺ: “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”. ونحن قد لُدغنا مرات كثيرة في التاريخ، من العثمانيين الذين خنقوا حرياتنا، إلى الإيرانيين الذين يحاولون اليوم طمس هويتنا العربية باسم الطائفية، والآن تُعاد المحاولة باسم الدين السني.

📍 خامسًا: مسؤولية النخب والوجهاء – الصمت خيانة
إن على شيوخ القبائل، والنخب الثقافية، والعلماء، وأصحاب المنابر، مسؤولية عظيمة في هذه المرحلة. لا يصح أن يصمتوا، أو يكتفوا بالمراقبة عن بعد. لا حياد اليوم في معركة الوعي.

كل صوت يصمت عن هذا الاختراق هو شريك في الجريمة. وكل من يبرر، أو يسوّغ، أو يغض الطرف عن هذا المشروع، فإنه يضع أولادنا على طريق التبعية. قال النبي ﷺ: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه…”، وإن منكر اليوم هو تحويل أبنائنا إلى جنود لأجندات لا تمثلهم.

📍 سادسًا: فهم العداء التاريخي – لا تكرّروا أخطاء الماضي
لا يمكن الحديث عن مشروع “أمة” دون العودة للعداء التاريخي الذي مارسه العثمانيون ضد العرب:

هم من قمَعوا الثورة العربية الكبرى.

هم من شنقوا العلماء في بيروت ودمشق.

هم من أذلّوا العرب وأطلقوا يد التتريك.

وهم من خانوا القضية الفلسطينية عندما فتحوا الباب للهجرة الصهيونية.

فكيف نُسلّم أبناءنا اليوم لأحفاد نفس المشروع؟ كيف نكرر الخطأ بعد مئة عام؟ وهل يجوز لنا أن نخدع أبناءنا فنصور لهم الاحتلال بوجه مبتسم؟

📍 سابعًا: ربط الحاضر بالمستقبل – حماية الجيل مسؤولية ثورية
لقد قامت الثورة السورية من أجل أن نحمي أبناءنا من الفساد، ومن التجهيل، ومن الطغيان. كانت صرخة في وجه من أرادونا عبيدًا، وخدماً في بلاط الاستبداد. واليوم، نرى من يريد أن يأخذ أبناءنا إلى بلاط آخر، باسم “الدعم”، و”الخلافة”، و”الوحدة الإسلامية”.

نحن مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ عن هذه الأمانة. قال النبي ﷺ: “ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرّم الله عليه الجنة”.

📌 الخاتمة – لا وصاية بعد اليوم:

نحن لا نرفض المساعدات، بل نرفض الشروط. لا نرفض التعليم، بل نرفض التلقين. لا نرفض الدين، بل نرفض تسخيره للهيمنة.

مشروع “أمة” ليس صدقة، بل مشروع احتلال ناعم.
اليوم، يُستبدل السيف بالعَلم، والدبابة بالدورة، والسجن بالمنحة الدراسية.

إن لم نُحصّن أبناءنا بالوعي، سيُعاد استعمارنا لا بالحديد والنار، بل بالمفردة والمناهج.

✊ سوريا تحتاج إلى دولة لا إلى سلطان. تحتاج إلى كرامة لا إلى كفالة. تحتاج إلى تعليم وطني لا إلى برمجة عثمانية.

📌 الهوية السورية ليست للبيع، والوعي هو خط الدفاع الأول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى