بعد الضربات الأميركية للمشروع النووي الإيراني... ما خيارات طهران الحقيقية؟
بعد الضربات الأميركية للمشروع النووي الإيراني... ما خيارات طهران الحقيقية؟

بعد الضربات الأميركية للمشروع النووي الإيراني… ما خيارات طهران الحقيقية؟
بقلم جرير مروان مراد
لم يكن السؤال حول الرد الإيراني المحتمل على أي هجوم أميركي مفاجئًا أو جديدًا، بل كان مطروحًا منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها التوترات تتصاعد بين واشنطن وطهران. ومع الضربات الأميركية الأخيرة التي استهدفت منشآت إيرانية مرتبطة بالبرنامج النووي، أصبح هذا السؤال أكثر إلحاحًا: كيف سترد إيران، وما هي أوراقها الحقيقية على الطاولة؟
وعود بالرد… ولكن إلى أين؟
خلال ساعات من وقوع الهجمات، توالت التصريحات النارية من المسؤولين الإيرانيين، مؤكدين أن الجمهورية الإسلامية لن تمرر هذا الاعتداء مرور الكرام. تصريحات أشبه بالقاعدة الثابتة في السياسة الإيرانية: “الرد قادم”. بل ذهبت بعض الأصوات داخل النظام الإيراني حد القول إن جميع الأهداف الأميركية أصبحت الآن ضمن نطاق الاستهداف المشروع.
لكن المتابعين للشأن الإيراني يعرفون جيدًا أن هذا النوع من الخطابات ليس جديدًا. فقد سبق أن أطلقت طهران وعودًا مشابهة بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، وأيضًا عقب مقتل إسماعيل هنية (نجل رئيس المكتب السياسي لحماس) في طهران، والذي اتهمت فيه إسرائيل بالضلوع. ورغم التصعيد اللفظي حينها، فإن الردود الإيرانية على الأرض لم تتجاوز الطابع الرمزي.
إلا أن هذه المرة مختلفة. فالمستهدف ليس مجرد شخصية أو حليف، بل قلب المشروع الاستراتيجي الأهم لإيران: برنامجها النووي، الذي تعتبره جوهر سيادتها الوطنية وعنوان قوتها الردعية أمام خصومها الإقليميين والدوليين.
ماذا يعني استهداف البرنامج النووي؟
البرنامج النووي الإيراني لم يكن مجرد مشروع علمي أو طموح تقني، بل تحول إلى رمز سياسي داخلي وخارجي، ربطت به القيادة الإيرانية أمنها القومي وشرعيتها السيادية، كما أنفقت عليه موارد ضخمة من الثروة القومية، رغم العقوبات المتواصلة والأزمات الاقتصادية المتراكمة. وبالتالي فإن أي مساس بهذا المشروع هو ضرب مباشر لهيبة النظام نفسه.
هنا تتعقد حسابات الرد، فـالرد الضعيف يعني انكسار الهيبة، أما الرد القوي فربما يفتح أبواب صراع شامل لا تُحمد عقباه. أمام هذا التحدي، تبرز ثلاث خيارات محتملة أمام طهران، لكل منها حساباته المعقدة.
أولًا: الخيار الاقتصادي العالمي – ورقة مضيق هرمز
من السيناريوهات التي يتحدث عنها المراقبون، إقدام إيران على إغلاق مضيق هرمز، الممر الحيوي الذي يمر عبره نحو 20% من صادرات النفط العالمي، أي قرابة 20 مليون برميل يوميًا. خطوة كهذه، من شأنها أن تشعل أزمة اقتصادية عالمية، وتؤدي إلى ارتفاع جنوني بأسعار الطاقة.
لكن هذه الورقة تحمل سيفًا ذا حدّين. فإيران نفسها تعتمد بشكل شبه كامل على هذا الممر لتصدير نفطها؛ إذ تصدّر عبره نحو 96% من إنتاجها البالغ 3.3 مليون برميل يوميًا. كما أن هذه الخطوة ستضر بشدة حلفاء طهران الكبار، وعلى رأسهم الصين، التي تستورد أكثر من 47% من احتياجاتها من النفط من الخليج العربي، و81% من النفط الإيراني يأتيها بحراً عبر ذات المضيق.
وعليه، فإن خيار إغلاق المضيق يبقى أقرب إلى التهديد الاستراتيجي أو ورقة الضغط القصوى، وليس قرارًا قابلاً للتنفيذ الفعلي في الظروف الحالية دون أن ترتد نتائجه الكارثية على إيران نفسها.
ثانيًا: الرد بالوكالة – عبر “محور المقاومة”
لطالما لجأت إيران إلى تنفيذ ردودها عبر “وكلاء” منتشرين في المنطقة، ضمن ما تسميه بـ”محور المقاومة”، والذي يضم حزب الله في لبنان، ميليشيات شيعية في العراق، الحوثيين في اليمن، إضافة إلى النظام السوري بدرجة أقل.
لكن واقع الحال اليوم يشير إلى تراجع قدرات هذا المحور، بفعل الضربات المركزة والمتواصلة التي تعرض لها من قبل إسرائيل والولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة. فحزب الله بات تحت ضغط أمني واقتصادي كبير في لبنان، والنظام السوري بالكاد يسيطر على مناطق نفوذه وسط تدخلات روسية وإسرائيلية، أما الحوثيون فقد تعرضوا لهجمات مدمّرة أميركية أفقدتهم الكثير من قوتهم، وانتهى الأمر بهدنة ضمنية معهم.
هذا التآكل في قدرة الوكلاء لا يعني أن إيران فقدت أدواتها تمامًا، فهي ما زالت تملك أوراق “إزعاج غير مباشر” يمكن أن تستخدمها في الخليج وبحر العرب، مثل:
-
زرع ألغام بحرية
-
شن هجمات محدودة عبر طائرات مسيرة أو زوارق مفخخة
-
استهداف سفن تجارية أو منشآت نفطية تابعة لحلفاء واشنطن
-
ضرب مصالح إسرائيلية أو أميركية في دول أخرى بهجمات “مجهولة المصدر”
هذه الأدوات تُستخدم لخلق توتر عام دون إعلان صريح للحرب، ولكن يبقى تأثيرها محدودًا على مستوى الردع الحقيقي.
ثالثًا: الرد الرمزي – المسرحية المتفق عليها؟
الخيار الثالث الذي يتحدث عنه كثير من المحللين هو ما يُعرف بـ**”الرد المتفق عليه”**، وهو رد محسوب بدقة، لا يهدف إلى إلحاق ضرر حقيقي، بل إلى حفظ ماء الوجه أمام الداخل الإيراني، تمامًا كما حصل بعد اغتيال قاسم سليماني.
حينها، أطلقت إيران صواريخ على قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق، لكن تم إبلاغ الأميركيين مسبقًا، مما جعل الضربة دون خسائر بشرية. ردٌّ تمثيلي أكثر منه عسكري، لكنه قدم طهران كدولة ترد، ولو بشكل مدروس.
هل يمكن أن تكرر إيران نفس التكتيك هذه المرة؟ ربما، ولكن الوضع هذه المرة مختلف تمامًا. فاستهداف المشروع النووي يعني أن المساس به لن يُمحى بردٍّ رمزي، أو ضربة شكلية لا تُسقط قتلى. ولذلك فإن المراقبين يشككون في قدرة طهران على تكرار هذا السيناريو دون أن تفقد ما تبقى لها من هيبة ردعية.
الخلاصة: المنطقة على أبواب مرحلة اضطراب جديدة
مهما كان شكل الرد الإيراني، فإن المؤكد أن الشرق الأوسط يدخل مجددًا في مرحلة اضطراب واستقطاب غير مسبوقة، ومعها ترتفع حدة التوترات الأمنية، وتهتز حسابات الاستثمار والاقتصاد في المنطقة.
ويزيد من خطورة هذا الوضع أن حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل تبدو ماضية في تبني سياسة الهجوم الاستباقي، ما يعني أن أي رد إيراني – حتى لو كان محدودًا – قد يُستخدم ذريعة لتصعيد أكبر، وربما توجيه ضربات إسرائيلية إضافية لمواقع داخل إيران.
في ظل هذا المشهد القاتم، تجد الدول العربية نفسها عالقة بين المطرقة والسندان، مطالبة بحماية مصالحها، دون الانجرار إلى صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل. والكل يترقب… هل تختار إيران التصعيد الشامل، أم تكتفي بـ”الاحتجاج المحسوب”؟
الإجابة ستحدد ليس فقط مستقبل إيران، بل مستقبل المنطقة بأكملها.